العمارة بين النور والظلام
هل لامسْت من قبل تأثير الضوء في جمالِ المِعْمَار؟ هل أبهرك ذاتَ مرَّةٍ مبنىً جلُّ ما يميزهُ هي الظلالِ المتشكلة عليه؟ هل تجذبك البقعة ذاتَ الإضاءةِ المتوهجة؟ أم تلك التي يعتريها الظلام؟
للإجابةِ عن تلك الأسئلة تعالوا لنتأمل معًا العمارة من منظور الظل والنور
ليوناردو دا فينشي-Leonardo da Vinci كان رسامًا ومهندسًا ومعماريًا، وكغيره من الفنانين ذوي الموهبة أدركَ في أعماله جيدًا قيمة العلاقة بين الظل والنور في إبراز جماليات الفن، ومن لوحاته نلاحظ المزج بين ثلاثةِ أنواعٍ من الظلال: الظل الذاتي، والتظليل المتدرج، والظل الساقط. الظل الذاتي هو غياب الضوء عن الجسم نفسه، والظل الساقط هو الرقعة التي يحجب الجسم فيها الضوء عن الأجسام المحيطة به، أما التظليل فهو التدرج الرمادي الواقع على الأجسام بين الضوء والعتمة.
إدراكُ أثر التباين بين الظل والنور لم يكن حديث عهدٍ بالعمارة، فالمعماريُّ منذ القدم راعى هذا المفرد الجماليّ في تصميماتهِ المختلفة، ويبدو هذا جليًا في الآثار التي نراها اليوم من مختلف الحضارات، فنجد الحضارةَ الفرعونية اعتمدت في إضفاء الجلال والرهبة للمعابد على القدرة على إحداث تناغم في التشكيل بالظلال.
معبد فيلة على سبيلِ المثال يشتهر بظلالهِ الخلابة النابعة من انفراده بموقعه الجغرافي بالقرب من مدار السرطان، فقربه من مسار الشمس يبرزُ الفارقَ بين شِدَّة الضوء والعتمة بشكل ملحوظ على الكرانيش المزخرفة والنقوش المحفورة على جدران المعبد.
فَهْمُ الفراعنةِ للضوءِ والشمس لمْ يقتصر على إخراج المعابد كلوحات فنية، بل امتد للتأريخ للأحداث الهامة، فقُدْسُ الأقداس داخلَ معبد أبو سمبل يعتريه الظلامُ معظمَ أيام العام، ولا تصل إليه أشعة الشمس إلا في يومين، يوم ميلاد الملك، ويوم تتويجه على العرش، بالتأكيد هذه لم تكن مصادفة، فهو نتاج دراستهم لحركة الشمس وتقنيات الإضاءة والإظلال.
الأمر لم يختلف كثيرًا عند الرومان، فمعبد البانثيون الروماني يتضمن استفادة مثالية من الضوء في تشكيل الفراغ الداخلي للبهو الرئيسي، فتغطية المعبد عبارة عن قبةٍ تتكون من خمسة حلقات أفقية تتقاطع مع ثمانية وعشرون عصبًا رأسيًا.
هذه الأعصاب مع كونها تعمل كنظامٍ إنشائي بالدرجة الأولى، إلا أن الفراغات البينية الغاطسة للداخل مع الفتحة السماوية العلوية -التي تهدف للتهوية وتسمح لشعاع الضوء بالدخول لإنارة الفراغ الداخلي- تشكل ملمحًا من ملامح التشكيل الداخلي البسيط المعتمد على قوة الظل والنور، فتغطية الفراغ لا تحتوي على أي نقوش أو زخارف لكن أحيانًا البساطة تُوصل أقوى المعاني.
العمارة الإسلامية أيضًا كان لها نصيب من التشكيل الجمالي باستخدام الظلال، والذي لم يكن يهدف لتزيين المباني فقط، بل كان له بُعْدٌ وظيفيّ لحماية المباني من المناخ الحار للمنطقة العربية، ويتضح ذلك في استخدام القباب والقبوات بسطحها المنحني وكذلك استخدام الكتل الغاطسة في مداخل المباني.
والاهتمام بالعنصر الجمالي لم يقتصر على المباني ذات الاستخدامات العامة فقط، بل امتد للمسكن حيثُ إظلال الأفنية الداخلية وواجهات المنازل بالمشربيات التي تظلُّ إلى الآن قطع نحتية فريدة في زخرفتها ونقوشها.
إن المباني كتل ساكنة، يكمن نجاح إخراجها في جعلها تتسم بسياقٍ من الحركة أو التدفق. هذا السياق لا يتحقق إلا بمسايرة رحلة الشمس اليومية عبر واجهات المبني، وإسقاطها للضوء بزاويا وشدة مختلفة، وطريقة سقوط الضوء على المبنى تؤكد على علاقات المباني المتجاورة ببعضها، وتحدد أي الكتل أكثر أهمية مما يجاورها.
وتلعب الإضاءة الصناعية دورًا هامًا في تسيير الأعمال في غياب الشمس، حيث تدور الشمس في مسار محدد بينما الإضاءة الصناعية تمكننا من إضاءة المبنى من أي منظور نشاء. لكن الاستخدام المفرط للإضاءة الصناعية وكأنك تسلط الضوء على المبنى من جميع الاتجاهات يفقد المبنى الكثير من المعاني التشكيلية، بالإضافة إلى ما يسببه من استهلاكٍ زائد للطاقة في غير محله، في حين أن الاستخدام المدروس لها للتأكيد على بقع حيوية من المبنى هو الأفضل بدون شك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق