جسر بروكلين
عند النظر لأي مبنى عظيم، ستجده يعتمد بشكلٍ أساسي على ثلاث صفات هي: الشكل، والوظيفة، والبنية الإنشائية. هذه المبادئ قد وضعها المعماري الروماني (فيتروفيوس-Vitruvius) الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. وإن من أحد هذه المباني الملهمة والذي تتوفر فيه كل صفات العمل الرائع، هو (جسر بروكلين – Brooklyn bridge) الذي يقع في مدينة نيويورك.
فإذا نظرنا للجسر من ناحية الوظيفة، فهي تغطية النهر الشرقي، ليربط بين مدينتي بروكلين ومانهاتن، بطول 1825مترًا، وعرض 25.9 مترًا. في وقت الافتتاح عام(1883) كانت وظيفته محددةً، وهي الربط الاقتصادي والاجتماعي بين المدينتين. لكن اليوم هو عبارة عن ست حارات لعبور السيارات والمارة، بعدما كان يحمل القطارات حتى عام 1944، والترام حتى عام 1950.
إن شكل جسر بروكلين جذابٌ بشكلٍ كبير، فانحناءات الكابلات الرئيسية على هيئة قَطْع مكافئ، وشكل الأبراج والشبكة المتداخلة من الصُلب التي تدعم الطريق لم يتم إنشاءها في الأساس بغرض التصميم الجمالي مثلما يحدث في بعض المباني، حيث يتم التصميم ثم تقوم الإنشاءات بخدمة هذا التصميم. لكن في بروكلين ما حدث هو العكس، حيث نتج هذا الشكل الجمالي عن البنية الإنشائية للمبنى، وهو العنصر الثالث لنجاح أي مبنى.
لمعرفة البنية الإنشائية للمبنى علينا أن نبدأ من فكرة إقامة هذا الجسر.
بدأ بناء الجسر مع المهندس (جون روبلينج – JOHN A. ROEBLING) (1806-1869)،الذي قام ببناء عددٍ من الجسور في بيتسبورج وسينسناتي. فقام بتصميم هذا الجسر وبدأ في عملية البناء، لكن بعد ثلاثة أيام فقط من عملية البناء في 6/7/1869 وأثناء تفقده لموقع البناء، اصطدم مركبٌ نهري بقوة في الرصيف، مما أدَّى إلى إصابة إصبعين في قدمه، واضطر الطبيب لبترهما، لكنه بعد ذلك أُصِيبَ بالتيتانوس (مرض حاد ينتج عن تلوث الجروح بالجراثيم)، حتى مات بعد بداية العمل بأسبوعين فقط.
تولّى بعد وفاته ابنه (واشنطن روبلينج) العمل، بسبب خبرته الكبيرة في صنع الكابلات، فقد أسس جون في عام 1841 مصنعًا للكابلات، فكان واشنطن على خبرةٍ واسعةٍ بهذا المجال، بالإضافة إلى أنه ساعد والده في التصاميم الخاصة بالمشروع، إلّا أن الأهم هو دراسته لكيفية إنزال حُجرات الهواء المضغوط تحت الماء، وهذه هي الطريقة التي كان ينوي بها بناء الأبراج في النهر، فيما يُعرف باسم (قيسون –caisson).
فالمهمة الأولى له كانت إنزال الأساسات الثقيلة لقاع النهر من أجل البرجين الهائلين، واللذان سيقومان بحمل الكوبري.
خَطَّطَ لاستخدام الحجرات المُحكمة الغلق المصنوعة من الخشب السميك بحوافٍ حديديةٍ حادة حول محيط الغُرَف بالكامل، بطول 49 مترًا، وعرض 30مترًا، وسيتم ملء الحجرات بالهواء المضغوط، لإبقاء الماء خارج الحجرات، ومنع الضغط الخارجي عند النزول لأسفل من تدمير الحجرات، وسيتم دفعها لأسفل بفعل وزن الأبراج أعلاها، والتي سيتم بناؤها بالحجر الجيري والجرانيت، وسيعمل وزن الأبراج فوق الحجرات على دفعها وصولًا للقاع الصخري، ثم يتم ملؤها بالخرسانة لتُشكِّل الأساسات الصلبة.
أثناء هذا العمل كان مُعرَّضًا في أي وقت حدوث خللٍ في الضغط وانهيار الحجرات فوق العمال، لكن العمل تحت تأثير الضغط الكبير أدَّى إلى إصابة بعضهم بالأمراض، واستمر العمل لمدة خمسة أشهر واجه خلالها مشاكل الأحجار الكبيرة أثناء هبوط الحجرات، ولكن تغلب عليها عن طريق تفجيرها، ومشاكل الحريق الذي نشب في سقف الحجرات، مما دفعهم لغمر الحجرات بالمياه، وهذا كَلّفَهم 9 أسابيع إضافية للوصول للقاع الصخري في بروكلين، والذي بلغ عمق الأساسات فيه 13مترًا.
لكن الأساسات في جزء نيويورك كانت أصعب، فلم يصلوا للقاع الصخري، ومع زيادة العمق، زاد الضغط حتى وصل لأكثر من 23,000 (kg∙m² )، وهذا أدَّى إلى وفاة عددٍ من العمال وإصابة بعضهم بالشلل. فأوقف (واشنطن روبلينج) العمل في أبراج نيويورك واكتفى بالوصول لعمق 23 مترًا، حتى إنه أُصِيبَ بالشلل، ولم يستطع متابعة العمل بعد ذلك.
إذا نظرنا للجسر نجد أنه ليس فقط الظروف الصعبة التي تم بناؤه فيها هي ما جعلته عملًا رائعًا، ولكن أيضًا البنية الإنشائية التي أوجدت هذا الشكل الجمالي. فشكل الكابلات على هيئة قطعٍ مكافئ نتج عن الحِمل المُنتظم الواقع عليها، وجَعْل الحمل منتظمًا يتم بوضع منشأ ثانوي يُسمَّى (جمالون داعم –stiffening truss) على كمرات عرضية، وظيفته هي توزيع الحمل بطريقة جانبية للخارج، حتى يتم توزيع أي حمل على جميع الكابلات الثانوية بالتساوي، ثم تمتد الكابلات وصولًا لأعلى البرج فتصبح مُنحنية، ونتيجةً لذلك يتحول كل الشد في الكابلات لأسفل خلال الأبراج على شكل قوى ضغط تنتقل عبر (العقود –arches) بشكلٍ دائري حول فتحات عبور السيارات حتى وصوله للأساسات. فالأبراج تحمل وزن الكوبري بشكلٍ كامل وكافة الأحمال المارة عليه، فهي تقوم بوظيفة الأعمدة.
فجسر بروكلين يتضح من خلاله فكرة البناء المثالي في الشكل، والوظيفة، والتركيب الإنشائي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق