الرومانسكيَّة وفن «قلاع الله»
المصطلح «رومانسك»
أُطلق مصطلح «رومانسك» على الفن المقتبس من الفن الروماني، وأول من أطلقه هو عالم الآثار الفرنسي «شارل دو جيرفيل»، وقد أخص به العمارة الغربية في الفترة ما بين القرن الخامس إلى القرن الثالث عشر، والمقصود بالأسلوب الرومانسكي: هو أسلوب في الفن وخاصة في العمارة؛ حيث كان الفن الرومانسكي فنًا للأديرة والكنائس بوجه عام، وقد ساد معظم البلاد الأوروبية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية وقبل ظهور الفن القوطي.
ليس المقصود بلفظ «رومانسك» أن ينطبق على البلاد التي كانت خاضعة للحكم الروماني من قبل؛ وإنما المقصود منه تلك البلدان الأوروبية التي كانت تابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، كما كان الغرض منها أيضا تمييز عمارة تلك الفترة؛ حيث تميزت باستخدام العقود المستديرة المعروفة في الكنائس البازيلكية الرومانية. (1)
بداية ظهور الفن الرومانسكي
بعد سيادة المسيحية الدول الغربية وبعد انتشار الدين المسيحي وزيادة سلطة رجال الدين والكنيسة، انفصلت سلطة الكنيسة عن الحكم الدنيوي وبدأ التفكير في إقامة كنائس كبيرة وضخمة لتكون انعكاسًا عن هذا الدين.
بدأ ظهور هذا الطراز الجديد في إيطاليا تحديدًا بإقليم «لومبارديا»، ثم انتقل منه إلى مختلف المدن في وسط وجنوب إيطاليا، ومن بعدها بدأ ظهور وانتشار هذا الطراز الفني إلى مختلف أنحاء أوروبا وبلاد العالم الكاثوليكي: ألمانيا، بريطانيا، إسبانيا، فرنسا.
بالرغم من اشتراك كنائس هذه البلاد في استخدام عناصر معمارية واحدة مثل العقود المستديرة؛ ولكن طراز كل بلد منها تميز بعناصر محلية مختلفة. (2)
لقد كانت الكنائس الرومانسكية تعبيرًا واضحًا عن القوة غير المحدودة والموارد التي لا تنفذ، وهو ما يتماشى مع فكرة السيطرة التي كان يتمتع بها أولئك الذين أمروا ببنائها، وقد أطلق على هذه الكنائس اسم «قلاع الله»؛ حيث كانت مماثلة للقلاع والحصون الموجودة في هذا الوقت من حيث المتانة والضخامة والصلابة، وكانت تستخدم كرمز للقوة والسلطة العليا، وبالتالي فقد ارتبطت العمارة الرومانسكية بقوة المركز الاجتماعي لمشيدينها، وأيضًا كتعبير عن السمو الطبقي.(3)
تركيبية الفن الرومانسكي
لقد تأثر الفنانون الرومانسكيون في تلك الفترة بالحضارات السابقة وبسمات مختلفة من كل أنواع الفنون التي سبقتهم، وبالتالي ظهر هذا الفن بطراز جديد ومختلف ؛ولكنه ظهر أيضًا متأثرا بما قبله، فنجده قد استلهم مظاهره من تراث المسيحية المبكرة ثم البيزنطية الغربية والبيزنطية الشرقية والقبطية، وقد كان للتاثير الإسلامي أثره الواضح على الفنون الرومانسكية نتيجة لاتصال الأوربيين بحضارة العرب المسلمين، فأخذوا عنها واقتبسوا منها، هذا علاوة على التأثير المباشر للفن الكارولنجي والفن الآتوني اللذين كانا من أهم التأثيرات على الفن الرومانسكي المبكر، وكان لفنون الشرق الأقصى والأدنى نصيب من مجموعة هذه التأثيرات الجمَّة، وخصوصًا فنون ما بين النهرين وفارس والفن المصري القديم ومعظم الفنون الإيرانية القديمة ولا سيما الفن الساساني.
أخذ الفن الرومانسكي نماذجه من مصدرين: أولهما- الأنسجة الشرقية بزخارفها الفارسية التي واصلت تقاليد فنون ما بين النهرين ذات سلسلة الشخوص الجامدة المبنية على تماثل رسوم الرنوك، وثانيهما- صور خرافي الحيوان التي أدمجها البرابرة السكندنافيون والإيرلنديون في الديناميكية لتصميماتهم الفنية، وبعد أن غزت هذه الوحوش التي تبناها الفن الرومانسكي العصور الوسطى فقد أثارت سخط بعض رجال الدين على أنها رمز استفزازي من العالم المناهض للمسيحية وللتقاليد الرومانية.
وهكذا بظهور الفن الرومانسكي كان للغرب أخيرا فن مركب من عناصر متعددة له دوره الوظيفي والعضوي. (4)
العمارة الرومانسكية
استنبط المعماريون الرومانسكيون مبادءهم الإنشائية من خلال تجاربهم المتواصلة وقدرتهم على التحكم فيما بين أيديهم، فتطورت مبانيهم شيئًا فشيئًا من إنشاءات ثقيلة على شكل الحصون إلى مباني تتسم بالرشاقة والجمال، أما بالنسبه للزخرفة فقد اتجه المزخرفون نحو النحت الصرحي والتصوير الجداري.
ويزخرف واجهة الكنيسة الرومانسكية عدد من العقود المستديرة التي يتوسطها عادة عقد عند المدخل الأكبر حجمًا، ويؤدي المدخل إلى رواق رئيس يحده من الجانبين عقود ودعائم سميكة، وتساعد هذه الدعائم في تخفيف الحمل على العقود الجانبية، وكان من أهم سمات الواجهات المميزة هي البوائك والعقود المزخرفة التي كانت تعلو بعضها البعض في الطوابق، مع كثرة استعمال الرخام وكسوة الحوائط الداخلية والخارجية، كما زُخرفت الأسقف الخشبية بألوان لامعة وزاهية، كما تتميز الواجهات بوجود عقود صغيرة بشكل زخرفي في النهايات العلوية للحوائط، وكذلك وجود شرفات ذات أعمدة مطلة على الخارج فوق الأجنحة الجانبية للكنيسة.
ولقد تميزت أعمدة العمارة الرومانسكية بتيجانها المختلفة الأشكال، وقد تباينت فيها أشكال أوراق النباتات وأشكال صغيرة لبعض الحيوانات وظهر بعضها في وضع يتواجهون فيه، وبالرغم من هذا التنوع في استخدام الأكتاف والأعمدة، وبجانب تجميع عناصر مختلفة الأحجام في التشكيل المعماري، ظهرت في تنسيق معماري جيد ومتكامل.
أما بالنسبة للنوافذ فقد كانت النوافذ في الكنائس والمباني التذكارية بصفة عامة عبارة عن فتحات صغيرة مستديرة عليها عقد، وغالبا ما تكون مفردة، وفي بعض الأحيان وجدت على شكل نافذتين يحيط بهما أحيانًا عقد كبير.
النحت الرومانسكي
كان الميدان الرئيس للفن الرومانسكي هو فن عمارة الكنائس، وعلى الرغم من ذلك فقد كان فن النحت مكملًا لفن المعمار وجزءًا لا يتجزأ منه.
كان الفن الرومانسكي مزيجًا من النحت والزخرفة معًا؛ حيث وَحَّد بينهما في نسق واحد مرتبطًا بالمعتقدات المسيحية التي سادت؛ حيث عني الفنان الرومانسكي بالنحت عناية فائقة فمال به إلى شيئين: أولهما- النقش شديد البروز، وثانيهما- التمثيل الطبيعي للجسد الإنساني بالرجوع إلى التقاليد الرومانية، وهو الاتجاه الذي كانت له اندفاعته الأولى بفضل الفن الكارولنجي.
وقد شمل هذا الفن التفاصيل المعمارية كالزجاج الملون والجداريات الكبيرة على الجدران والسقوف، والمنحوتات على المباني والأعمدة.
لم يتح الفن الرومانسكي للنحت -الذي كان زخرفة للعمارة- أن يمضي مستقلًا بذاته، واعتمد على تطبيق القوانين الهندسية والعقلانية التي كانت مقصورة من قبل على الزخرفة، وهو الأسلوب ذاته الذي استخدمته بيزنطة في التصوير وأعمال الفسيفساء.
أصبح النحت الرومانسكي نحت تمثيلي، بالرغم أن النحت فن عنايته بالكتلة فلقد غدا جزءًا أساسيًّا من الجدار الذي كان من قبل مجالًا للزخارف.
ذهب” فوسيون” إلى أن النحت الرومانسكي يخضع لمبدأين:
- الأول- أن المَشاهد المنحوتة تدين في تكوينها لشكل الإطار الذي ينظمها، فإذا كان الإطار الذي ينظمها مستطيلًا جاء ترتيب رؤوس الشخوص يتفق مع شكل المستطيل، وإذا كان الإطار مستديرًا كما هي الحال في حشوة العقد تدرجت الرؤوس هرميًّا، وإذا كان الإطار شبه دائريّ كما هو الحال في مدخل الكاتدرائيات اتخذت المائدة والشخوص شكلًا شبه دائري.
- الثاني- تكون الشخوص فيه على شكل هندسيّ ذي طابع زخرفي جليّ يحدد قوامها، ولذا اعتاد الفنَّانون في أواخر العصر الرومانسكي أن يصمموا منحوتاتهم وفق أشكال تجريدية مبسَّطة.
فأعمال النحت في الكنائس الرومانسكية ظهرت كجزء من التصميم المعماري أي كدعامة أو عمود للمبنى، كما أن الحيوانات والأشجار والهيئات البشرية أيضًا تقوم بوظيفة زخرفية في التصميم العام للكنيسة لشغل الحيز الذي توجد فيه.
أما بالنسبة لخامة نحت التماثيل، فعلى العكس من تماثيل العالم الكلاسيكي القديم المصنوعة من الرخام أو البرونز نحتت النماذج الرومانسكية في الحجر الجيري أو الرملي الناعم المتوافر بغزارة في فرنسا وكان الغرض من هذه المنحوتات هو تزيين داخل الكنائس التي لم تكن تتعرض لعوامل الطبيعة، ولم يستبعد النحت الرومانسكي النماذج المصنوعة من المعادن ولكن لم يبق منها إلا القليل؛ لأن معظمها كان مصاغًا من مواد نفيسة كالذهب والفضة والنحاس مجملة بالطلاء المزجج ومرصعة بالأحجار الكريمة.
كان أيضا للرسم التصويري في هذه الفترة نفس الأهمية التي كانت للرسم الزخرفي، فقد تم استغلال مجال الكتاب المقدس كله في أغراض فنيَّة، كما كان هناك موضوعات مثل: عذاب المسيح ويوم القيامة، وموضوع يوم القيامة كان شائعًا في أعمال النحت الموجودة على أقواس بوابات الكنائس، وتكمن أهمية هذا الموضوع في إظهار السلطة القوية للكنيسة، أما في تصوير الفن الرومانسكي لعذاب المسيح كان المسيح مصلوبًا لا يتدلى من الصليب وإنما يقف عليه ويمثل عيناه بعينين مفتوحتين، وفي كثير من الأحيان يصوّر مرتديًا ملابس وعلى رأسه تاج.
أما السيدة العذراء فهي ملكة السماء وليست الأم الحزينة على ابنها، وعادة تم تصوير الأشخاص وهم يقفون جنبًا إلى جنب وبشكل متناسق، أما القديسون فتم إظهارهم بمظهر الزُهّاد وتطهيرهم من العوامل الدنيوية المُفسدة.
فن التصوير الرومانسكي
أما بالنسبة لفن التصوير الرومانسكي سواء كان من الفريسكو الذي تزدان به الجدران، أو الصور التي على المخطوطات، أو على الزجاج النادر من تلك الفترة، فقد كان غير بارز وعبارة عن رسومات تخطيطية، مستمدة من نماذج معروفة إلا أنها استخدمت بشكل بدائي وظلت نموذجًا يُحتذى به، كما أن ألوان الفريسكو التي بقت كانت بسيطة ويغلب عليها اللون الأصفر والأحمر والأسود، كذلك فإن الألوان النباتية مثل اللون الأزرق كانت شاحبة، واستخدم الرسَّامون عددًا كبيرًا من الألوان الخاصة بالحلى مع إضافة شرائح كبيرة من الذهب .
والواقع أن كل رسومات العصور الوسطى الرومانسكية والنحت أيضًا، كانت كلها أعمال تصويرية وصفية تحكي قصة متتابعة وكانت كلها مكمِّلة للعمارة، وللكلمة المكتوبة، ولصوت الكاهن.
أهم كنائس الطراز الرومانسكي
- كنيسة سان سرنان، تولوز، فرنسا
- كنيسة سان فيسينت في أفيلا بأسبانيا
- كاتدرائية بيزا بإيطاليا
- كنيسة وارم بألمانيا
- معمودية فلورنسا بإيطاليا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق