كيف يمكن لواجهات المباني أن تتنفس ككائنٍ حي؟ أفكار وتطبيقات
من الناحية التقنية، فإن مفهوم غلاف المبنى الذي يتكيف مع الظروف البيئية المحيطة يعود إلى أول نافذة في التاريخ، ولكن المفهوم المعاصر ظهر في العقود الأخيرة فقط.
(الجدران المُتنفِّسة – Breathing Walls) مصطلح تم استخدامه لأول مرة في عام 1969 في ألمانيا، ويُقصد به استخدام هيكل المبنى لتحسين جودة الهواء الذي يصل إلى المستخدمين داخل المبنى باستخدام عناصر طبيعية أو صناعية أو كليهما.
تزامنًا مع الثورة الصناعية والتطور التكنولوجي الهائل وتنامي الاحتياجات الأساسية والثانوية للبشر؛ تزايدت معدلات التلوث بشكلٍ غير مسبوق مما أدى إلى انتشار الأمراض الناجمة عن ذلك وخاصةً في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة والمدن الصناعية الكبرى، لم يقتصر الضرر على الإنسان فحسب؛ بل امتد ليشمل النظام الإيكولوجي والبيولوجي للأرض مؤثرًا على التوازنات الطبيعية بين الكائنات الحية وعناصر البيئة.
اكتشف الإنسان في وقتٍ قريب نسبيًا الكوارث التي تسبب فيها بسبب تحديه –عن جهل أو إهمال- للطبيعة التي استطاعت أن تكسر غرور إنسان عصر التكنولوجيا وانتصرت عليه في المعارك طويلة الأمد وأرغمته على احترام خصوصيتها حفاظًا على صحة الأجيال الحالية والقادمة وقدرتهم على توفير مواردهم في المستقبل.
حديثًا تَعدَّى احترام الإنسان لدور الطبيعة وأهميتها من محاولة عدم الإضرار بها بقدر المستطاع إلى محاولة دمجها في المباني لتكوين نظام بيولوجي مصغر يكون المبنى جزءًا منه، ومع تعدد الأنظمة البيولوجية المصغرة يأمل الإنسان في إعادة التوازن الطبيعي للنظام الإيكولوجي والبيولوجي لكوكب الأرض أملًا في نيل رضا الطبيعة وخوفًا من تفاقم أخطاء الماضي.
نتناول هنا بعض الأفكار والتطبيقات لدمج الطبيعة في المباني بغرض تحسين جودة الهواء للمستخدمين بالداخل أو توفير مصادر طاقة متجددة طبيعية:
– الخرسانة الحيوية
استطاع فريق تكنولوجيا المنشآت بجامعة كتالونيا للفنون في برشلونة (Universitat Politècnica de Catalunya) تطوير نوع من الخرسانة الحيوية التي تُعطي إمكانية لنمو كائنات حية عضوية متعددة على سطحها، كثيرًا ما رأينا الحدائق الرأسية والواجهات الخضراء، ولكن ما يُميز هذه الخرسانة الحيوية عن بقية الأنظمة هو التكامل مع الهيكل الانشائي؛ حيث أنه يتكون من ثلاث طبقات تعلو العناصر الإنشائية والتي توفر معًا مزايا بيئية وحرارية وجمالية للمبنى.
بوجهٍ عام فإن مستويات الأُس الهيدروجيني (pH) للخرسانة مرتفعة، والظروف المثالية للخرسانة عندما يكون الأس الهيدروجيني أقل من (9)، ولكن يُمكن أن يصل الأس الهيدروجيني للأسمنت البورتلندي التقليدي إلى (12 أو 13) وبالتالي يحتاج إلى أن يتم تخفيضه إلى مستويات مقبولة.
هذه الظروف ليست المثالية التي يبحث عنها الباحثون في جامعة كتالوينا، فبدلًا من ذلك يقوم الباحثون بتطوير الطبقة الحيوية من الخرسانة باستخدام أسمنت فوسفات الماغنسيوم الأكثر حامضية والذي لا يحتاج إلى المعالجة لتقليل مستويات الأس الهيدروجيني.
تتكون الخرسانة الحيوية من ثلاث طبقات على سطحها، الأولى هي غشاء عازل للماء يحمي عناصر الهيكل الإنشائي من اختراق الماء، والثانية هي طبقة الخرسانة الحيوية الجديدة فوق الطبقة الأولى والتي تمتص الماء وتعمل كهيكل إنشائي مُصغَّر يُخزِّن الماء، والطبقة الأخيرة هي تغطية متقطعة والتي تتحكم في دخول ماء المطر وتنظمه بدون المساس بالهيكل الإنشائي.
فوائد هذا النظام متعددة، فالنباتات تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء وتطلق الأكسجين، وتعمل الطبقة كعازل مثل الكتلة الحرارية للمبنى، وتساعد في تنظيم درجات الحرارة داخل المبنى بمنع دخول الحرارة داخل المبنى في الأماكن ذات الطقس الحار وتمنع خروج الحرارة خارج المبنى في الأماكن ذات الطقس البارد، وأخيرًا إمكانية نمو النباتات المتعددة وهذا الاختلاف في الواجهة جماليًا وبيئيًا يضيف التنوع والألوان إلى أي واجهة ويجعل المبنى في حالة تجدد دائم.
– واجهة مبنى مُنتجة للطاقة من الطحالب
تلك الجدران بمساحة 2150 قدم مربع تم الإعلان عنها في ربيع 2013 في ألمانيا هي نتاج ثلاث سنوات من التجارب لمجموعة من المصممين من ستوديو (Splitterwerk Architects and Arup)، فألوانها الخضراء والصفراء النابضة بالحياة ليست لغرض جمالي فقط، إنها في الحقيقة مُلوَّنة بملايين الطحالب الميكروسكوبية والتي يتم تغذيتها بالعناصر الطبيعية والأكسجين لتحفيز إنتاج الطاقة الحيوية، وبمساعدة أشعة الشمس المباشرة تقوم الخلايا الصغيرة سريعة النمو بتسخين الماء حيث يقوم نظام الطاقة بالاحتفاظ بالطاقة الحرارية لاستخدمها في المبنى.
يقول (جان وورم-Jan Wurm) رئيس باحثين مجموعة (Arub) في أوروبا: «إذا استطعنا إثبات أن واجهات الطحالب الميكروسكوبية يمكن أن تُصبح مصدرًا مستمرًا لإنتاج الطاقة المستدامة، يمكننا أن نحدث تغييرًا جذريًا في البيئة العمرانية».
-واجهة تستجيب للضوء مستوحاة من العمارة الإسلامية
لكلٍّ من برجي أبو ظبي التوأمان غلافٌ من الزجاج، ولكنه غير مثالي للمناخ الصحراوي، ولذلك قام المعماريون في ستوديو (Aedas) بتصميم غلاف شمسي خاص والذي يقوم بتقليل الوهج مع عدم حجب الرؤية تمامًا، وذلك بفضل شبكة من الألياف الزجاجية متعددة الأوجه قائمة في تصميمها على فكرة (المشربية) الإسلامية التقليدية حيث تنفتح أجزاءها أو تنغلق طبقًا لدرجة حرارة الواجهة.
يقول (بيتر أوبورن –Peter Oborn) المدير التنفيذي لــ (Aedas) : «في الليل ستنفتح جميع أجزاء الغلاف، فيمكنك رؤية المزيد من الواجهة، إنها تستخدم تقنية قديمة بطريقة معاصرة، كما أنها تتماشى مع تطلعات دولة الإمارات لتأخذ دورًا قياديًا في الاستدامة في المنطقة».
-واجهة تلتهم الضباب الدخاني
بالعودة إلى عام 2011، كشفت الشركة الكيميائية (Alcoa) النقاب عن تقنية مُميزة يمكن من خلالها تنقية الهواء المحيط بها، حيث تحتوي المادة على (ثاني أكسيد التيتانيوم) والذي يقوم بكفاءة بتنقية الهواء من السموم بإطلاق جذور حرة إسفنجية يمكنها التخلص من الملوثات. ومنذ ذلك الحين ظهرت فائدة هذه التقنية في الشوارع والملابس والمباني، ومؤخرًا في الغلاف الشمسي لمستشفى مدينة نيو مكسيكو.
تم تغليف المستشفى بغلاف طوله 300 قدم تم تطويره من الشركة الألمانية (Elegant Embellishments) حيث تعتمد التقنية على نفس الخطوات: كمرشحات للهواء حول الهياكل إسفنجية الشكل، تقوم الأشعة فوق البنفسجية بتنشيط جزيئات حرة يمكنها القضاء على أية ملوثات موجودة، تاركةً الهواء للمرضى بالداخل نظيفًا، وطبقًا لشركة (Fast Company) فحتى شكل الهيكل للغلاف الشمسي له خصائص مميزة، حيث يقوم بخلق اضطرابات تُبطِئ من حركة الهواء حول المبنى أثناء قيام الأشعة الفوق بنفسجية بدورها في تنشيط التفاعل الكيميائي.
– غلاف متكيف قليل التقنية
في مدينة ملبورن في أستراليا قام ستوديو (Sean Godsell Architects) بتغطية مبنى مدرسة RMIT للتصميم بآلاف من الدوائر الزجاجية الصغيرة، كلٌّ منها مثبت في محور مركزي، وطبقًا للحرارة والرطوبة داخل المبنى، تقوم هذه الدوائر تلقائيًا بالدوران حول محورها الرأسي لتسهل أو تمنع حركة الرياح خلال الواجهة. حيلة بسيطة لكن ذكية.
– شبكة معدنية تتفاعل مع الحرارة
(Bloom) هو هيكل مؤقت بواسطة البروفيسور (دوريس كيم سونج-Doris Kim Sung) أستاذ العمارة بجامعة (USC)، هذا الهيكل ليس واجهة مبنى ولكنه يستخدم تقنية لم تُستخدم في المباني من قبل.
تتعلق أبحاث (سونج) بعلم (التقليد الأحيائي-Biomimetics) أو كيف للعمارة أن تقلد الطبيعة بوجه عام وجسم الإنسان بوجه خاص.
هذه التغطية الشمسية عبارة عن غلاف مكون من معدنين مختلفين، كلٌّ منهما له معامل تمدد حراري يختلف عن الآخر، مما يعني أن كل جانب يتفاعل بطريقة مختلفة مع ضوء الشمس، يتمدد وينكمش بمعدلات مختلفة مسببًا للشد بين السطحين مما يسبب الانحناء على السطح، لذلك عندما يتعرض السطح للحرارة، فإن الألواح الرقيقة على التغطية تنحني لأعلى مكوِّنةً فتحات تسمح بمرور الهواء للفراغ أسفلها، وعندما تبرد تنغلق مجددًا.
– خرسانة تمتص الملوثات من الهواء وتحولها إلى أملاح داخلية
قام ستوديو (Nemesi & Partners) بتصميم جناح لمعرض (Milan Expo 2015) باستخدام نوع جديد من الخرسانة تستطيع امتصاص الملوثات من الهواء في وجود ضوء الشمس وتُحوِّلها إلى أملاح داخلية، وبالتالي تُساعد هذه الأملاح في تنقية الغلاف الجوي من الملوثات. من التطبيقات البيئية الأخرى: السقف المقبب المبني من العوارض المعدنية وألواح الزجاج الشمسية للحصول على الطاقة الكهربية من الإشعاع الشمسي.
– جدران تتنفس، مليئة بالضفادع وأحياء برمائية أخرى.
يقوم المعماري (David Benjamin) بخلق عمارة حية، ليس المقصود هو جدران خضراء فحسب، حيث قام الاستوديو المعماري (The Living) بإنشاء برج بارتفاع 40 قدم من طوب «الفطر»، وإنشاء مُستشعِر حيوي مصنوع من (بلح البحر-Mussels) لمعرض بينالي فينيسيا للعمارة، وقام بالعديد من التجارب لمواد إنشاء للمباني تنمو من البكتيريا، والآن يقوم بصنع واجهة حية تتنفس من خزانات زجاجية مليئة بالضفادع والطحالب والقواقع.
يتكون (الغلاف البرمائي-Amphibious Envelope) من ثلاثة ألواح زُجاجية تحتوي بينها على تجويفين، التجويف الأول مليء بالهواء والتجويف الثاني يحتوي على الماء والضفادع وغذاء لهم، هذه الضفادع تعمل كمستشعر حيوي يمكنه تحديد كمية الأكسجين في الماء في أي وقت، وبنفاذ الأكسجين من الخزان المائي، تقوم الضفادع بالسباحة لأعلى الماء والحصول على الأكسجين من الهواء، وعند القيام بذلك تقوم مستشعرات إلكترونية بتتبع حركة الضفادع، هذه المستشعرات الإلكترونية تسحب الهواء من خارج الواجهة وتمرره خلال الخزان المائي حيث تتم تنقية الهواء، وبمجرد أن تصل فقاعات الهواء إلى أعلى الخزان تخرج من فتحة علوية مطلقةً الهواء النقي داخل الفراغ خلف الواجهة.
يقول (بنيامين) أن هذا النظام له فائدتان بجانب تنقية الهواء، فتمرير الهواء المسحوب من الخارج عبر الماء يخلق نظام تبريد طبيعي، كما أن الفقاعات المتحركة تخلق ظلالًا وأنماطًا لها بعد جمالي.
أخيرًا هناك المئات أو الآلاف من التطبيقات والأفكار الأخرى التي إن دلت على شيء فإنما تدل على وعي البشر بأهمية الحفاظ على البيئة من منطلق الحفاظ على فرص بقاءهم في المستقبل القريب والبعيد بقدر المستطاع ووعي الإنسان بأن أي معركة يخوضها في سبيل رفاهيته وتحسين مستوى معيشته لابد أن تكون البيئة أولى اعتباراته، فالبيئة لا يمكن أن تكون محايدة، إما أن يستطيع الإنسان تصحيح أخطاء الماضي بضمها إلى صفه، أو تنقلب عليه كما حدث كلما حاول الإنسان تجاهلها أو تحديها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق