قَصْرُ«الحمراء»..
اقترن اسم مملكة غرناطة في تاريخ الأندلس باسم أسرة «بني الأحمر أو بني نصر»؛ حيث تعد آخر إمارات ملوك الطوائف التي قامت بالأندلس قرابة قرنين ونصف القرن.
شهدت العمارة في الأندلس عبر جميع عصورها تفوقًا في الهندسة والزخرفة، والاتقان الذي جعلها انعكاسًا للواقع الذي كان يتميز بأنه الجمال في أنقى صورِه، ولقد اهتم الغرناطيون بجميع مظاهر الحضارة في الأندلس، وتفانوا فيها حيث بلغ الفن المعماري ذُروته من التحرُر والافتتان، الذي جعله رمزًا خالدًا للفن الأندلسي؛ حيث شيَّد الغرناطيون العديد من المباني العريقة التي سحرت زُوراها على مدى التاريخ، كما كانت انعكاسًا لحضارةٍ عظيمةٍ ألهمت العالم كُلّه على مدى قرونٍ من الزمان.
مثّل الفن المعماري لدولة بني الأحمر مرحلة التمام لعهد الازدهار الذي بدأه الأمويُّون فى قرطبة فى القرن الثامن، حيث تنوعت العمارة الأندلسية في عهد بني الأحمر ما بين العمارة الدينية وعمارة القصور والقاعات، وتميز العصر الغرناطي بالتنافس المعماري الذي أظهر براعة المهندسين والبنائين الأندلسيين على حد سواء.
قصر الحمراء
يُعد قصر الحمراء من أهم المباني المعمارية الشاهدة على عظمة الفن الأندلسي، شيدهُ السلطان النصري الأول «محمد بن الأحمر» الذي دخل غرناطة في سنة (635ه)، ويعد القصر من رموز مدينة غرناطة التي تُبرز جمال الفن العربي والإسلامي على حد سواء، يطلق على هذا المَعلم بأنه قِبلة زوار إسبانيا الذين ينشدون رؤية الجانب التاريخي لتلك الحضارة، كما اعتبر الأكاديميون الحمراء نسيج وحدة ومثال حي للثقافة الإسلامية، وهو الذي جعل المخيلة الشعبية والمخيلة عالية الثقافة على السواء، ينسجون حوله خيالاتهم منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اللحظة.
فنون قصر الحمراء
يَزخر قصر الحمراء بالعديد من الزخارف الإسلامية الأصيلة، والتي تتناسب مع مبادئ الدين الإسلامي، لقد اتصلت زخرفة القصر بتقاليد فن ما بين النهرين أكثر منها بالتقاليد الإسبانية أو الإفريقية، لقد استخدم الغرناطيون في بناءه الجص المضروب في قوالب لجعله مقاومًا للتقلبات الجويَّة، وهذا ما جعله قائمًا ومُحافظًا على كيانِه لمدة خمسة قرون.
لقد صُممت الزخارف خصيصًا لهذا البناء، فهناك التشكيلات الهندسية والزخارف التي تتكون من مزيج من آيات قرآنية أو عبارات تدل على عظمة الإسلام، أو قصائد وأبيات شعرية تكتسي بها جدران وواجهات القصر، وتكوَّنت الزخارف الرئيسة في المنحوتات الحجرية لهذا القصر من تفريعات نباتية مزهرة، تميزت بامتداد الزخارف واستمرارها بحيث تختفي المساحات الخالية من الزخارف تمامًا، كما تكتسي الجدران بالجص وبلاط القاشاني الملون ذي النقوش الهندسية التي تغطي الأجزاء السفلية من الجدران.
ولقد تكونت واجهة مدخل الحمراء من مجموعة من الأعمدة المزخرفة من الرخام، كما زُخرفت تيجان الأعمدة بالمقرنصات.
أما الخطوط التي استخدمت على جدران القصر فقد تنوعت ما بين خط الثُلث بمنتصف الجدار، والخط الكوفي بأسفله، ولقد أظهرت النقوش على الجدران براعة الفنانين المسلمين في الأندلس في صياغة الحفر للعناصر المتشابكة والمتداخلة ما بين عناصر نباتية، وتفريعات ورقية، وأشكال هندسية.
كما تميز القصر بوجود مزهريات كانت تستخدم في أغراض عمليَّة، ثم أصبحت تُصنع لغاية جمالية فنية بحتة تَنُم على مستوى رفيع من التطور والإبداع في تقنية الخزف، ويتراوح طول هذه المزهريات ما بين 120 سم و 170سم لتلائم طبيعة الأثاث الذي توضع معه، وتلك المزهريات مطلية باللون الأزرق اللمّاع، ومزينة بكتابات زخرفية وأشكال نباتية متداخلة، إلى جانب بعض الحيوانات كالأسود، التي شاع استخدامها في غرناطة في تلك الفترة.
كان الجدار في هذا القصر عبارة عن لوحة جصيَّة مليئة بالزخرفة التي كان الهدف منها إثراء الشكل، وهذا الشكل الهندسي الملئ بالزخرفة جعل عين المشاهد تتعلق به، وبهذا اندمجت الزخرفة مع المُشاهد وجعلته مستغرقًا في العمل الفني، محاولًا فك رموزه، وبالتالي فقد أصبح المشاهد مشاركًا في العمارة وأصبح جزءًا متداخلًا معها.
وقد كتب في قصيدة نافورة حديقة دار عائشة بالقصر:
لقد ألهم قصر الحمراء الشعراء والفنانين العرب والأسبان والأجانب على حدٍ سواء، لنسج روايات وقصائد شعرية حول الحب والحرب والفروسية والتضحية، تدور أحداثها في جنبات هذا المبنى المهيب، كما مارس قصر الحمراء سِحره على الرسامين والموسيقيين الذين استوحوا أعمالهم من جمال هذا المكان، ولقد تحول قصر الحمراء في الثقافة الغربية إلى مكانٍ أصبحت فيه الحقيقة التاريخية والعمرانية تقريبًا متجاورة، بعد أن خُلقت حوله أساطير أعطته حياة ثانية، لم يتخيلها أبدًا من قام بتشييده.
ولقد تحول القصر إلى قصر في حكايات ألف ليلة وليلة، ف«بهو الأسود، وقاعة الأختين، وقاعة بني سراج، وقاعة الملوك، وقاعة المقرنصات»، كلها من مرافق قصر الحمراء، وهي نسخ طبق الأصل لقصور موجودة بالفعل في حكايات ألف ليلة وليلة.
وفي القرن العشرين ألّف الزعيم المصري «مصطفى كامل» مسرحية «طارق بن زياد»، وألف «عزيز أباظة» في منتصف نفس القرن مسرحيته الشعرية «غروب الأندلس»، والتي تدور أحداثهما بداخل أروقة قصر الحمراء.
ومن أمثال الشعراء العرب الذين ألهمهم جمال هذا المكان هو الشاعر السوري «نزار قباني»، حيث كتب هذا في قصيدة أثناء زيارته له:
أما أمير الشعراء «أحمد شوقي» فقد كتب أثناء نفيه إلى إسبانيا في سينيته المشهورة:
وقد ربط «أحمد زكي» باشا قصر الحمراء بالفردوس المفقود عندما نظم البيتين التاليين:
لقد كانت الغاية من قصر الحمراء أن يجتمع فيه السمو والزخرفة؛ لإضفاء مزيد من الغموض والتعقيد على صورة هذا القصر، فهو لم يكن مجرد استمرار لبناء القصور؛ بل هو استحضار واعٍ للحس الأسطوري للقصور، أسطورة القوة والثروة معًا.
ولقد استطاع النصريون أن يبدعوا في تصميم وبناء قصر، ذي طابع أسطوريّ يتحدى قوتهم السياسية المتقلقلة، مع شيء من المغالاة في الزخارف والاقتباسات، حيث أُريد لقصر الحمراء أن يكون ممثلًا خالدًا للقوة الثقافية، رغم ضعف القوة السياسية والعسكرية عند بناءه، فالحمراء يمثل مشهدًا فاتنًا متقن الصُنع، لآخر القصور الإسلامية في الأندلس، فهو يحاول المحافظة على الشخصية الإسلامية وتاريخها، وهو تذكير لما هو باقٍ من الفنون والعمارة الأندلسية.
قدم لنا النصريون، مزيجًا من الصبغة الثقافية الأندلسية والتقليد الفني الإسلامي الإسباني، الذي تميز بالتعقيد والبهرجة.
وعلى الرغم من سقوط غرناطة إلا أن القصر بقى صامدًا يقاوم الإنسان والزمان معًا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق